فصل: تفسير الآيات (159- 164):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (152- 158):

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
{فاذكروني} بالمعذرة {أَذْكُرْكُمْ} بالمغفرة أو بالثناء والعطاء، أو بالسؤال والنوال، أو بالتوبة وعفو الحوبة، أو بالإخلاص والخلاص، أو بالمناجاة والنجاة. {واشكروا لِي} ما أنعمت به عليكم {وَلاَ تَكْفُرُونِ} ولا تجحدوا نعمائي.
{يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ استعينوا بالصبر} فبه تنال كل فضيلة {والصلاة} فإنها تنهى عن كل رذيلة {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالنصر والمعونة {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ في سَبيلِ الله} نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً. {أَمْوَاتٌ} أي هم أمواتٍ {بَلْ أَحْيَاء} أي هم أحياء {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} لا تعلمون ذلك لأن حياة الشهيد لا تعلم حساً. عن الحسن رضي الله عنه أن الشهداء أحياء عند الله تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الروح والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدواً وعشياً فيصل إليهم الوجع. وعن مجاهد: يرزقون ثمر الجنة ويجدون ريحها وليسوا فيها. {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} ولنصيبنكم بذلك إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم هل تصبرون على ما أنتم عليه من الطاعة أم لا. {بِشَئ} بقليل من كل واحدة من هذه البلايا وطرف منه. وقلل ليؤذن أن كل بلاء أصاب الإنسان وإن جل ففوقه ما يقل إليهم، ويريهم أن رحمته معهم في كل حال، وأعلمهم بوقوع البلوى قبل وقوعها ليوطنوا نفوسهم عليها. {مِّنَ الخوف} خوف الله والعدو {والجوع} أي القحط أو صوم شهر رمضان {وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال} بموت المواشي أو الزكاة، وهو عطف على شيء، أو على الخوف أي وشيء من نقص الأموال. {والأنفس} بالقتل والموت. أو بالمرض والشيب {والثمرات} ثمرات الحرث أو موت الأولاد لأن الولد ثمرة الفؤاد {وَبَشِّرِ الصابرين} على هذه البلايا أو المسترجعين عند البلايا لأن الاسترجاع تسليم وإذعان وفي الحديث: «من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه». وطفئ سراج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنا لله وإنا إليه راجعون فقيل: أمصيبة هي؟ قال: نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة». والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه البشارة. {الذين} نصب صفة للصابرين. ولا وقف عليه بل يوقف على {راجعون}. ومن ابتدأ ب {الذين} وجعل الخبر {أولئك} يقف على {الصابرين} لا على {راجعون}. والأول الوجه لأن الذين وما بعده بيان للصابرين. {إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} مكروه. اسم فاعل من أصابته شدة أي لحقته. ولا وقف على {مصيبة} لأن {قَالُواْ} جواب {إذا} و{إذا} وجوابها صلة {الذين}. {إِنَّا لِلَّهِ} إقرار له بالملك. {وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} إقرار على نفوسنا بالهلك. {أولئك عَلَيْهِمْ صلوات مّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} الصلاة: الحنو والتعطف فوضعت موضع الرأفة، وجمع بينها وبين الرحمة كقوله {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] {رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117]. والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ورحمة بعد رحمة. {وأولئك هُمُ المهتدون} لطريق الصواب حيث استرجعوا وأذعنوا لأمر الله. قال عمر رضي الله عنه: نعم العدلان ونعم العلاوة أي الصلاة والرحمة والاهتداء.

.تفسير الآيات (159- 164):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
{إِنَّ الصفا والمروة} هما علمان للجبلين. {مِن شَعَائِرِ الله} من أعلام مناسكه ومتعبداته جمع شعيرة وهي العلامة {فَمَنْ حَجَّ البيت} قصد الكعبة {أَوِ اعتمر} زار الكعبة، فالحج: القصد، والاعتمار: الزيارة، ثم غلبا على قصد البيت وزيارته للنسكين المعروفين وهما في المعاني كالنجم والبيت في الأعيان. {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} فلا إثم عليه {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، أي يتطوف فأدغم التاء في الطاء. وأصل الطوف المشي حول الشيء والمراد هنا السعي بينهما. قيل: كان على الصفا (إساف) وعلى المروة (نائلة) وهما صنمان يروى أنهما كانا رجلاً وامرأة زنيا في الكعبة فمسخا حجرين فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلما طالت المدة عبدا من دون الله. وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان كره المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهلية فرفع عنهم الجناح بقوله {فلا جناح}. وهو دليل على أنه ليس بركن كما قال مالك والشافعي رحمهما الله تعالى. وكذا قوله {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} أي بالطواف بهما مشعر بأنه ليس بركن. {ومن يطوع}: حمزة وعلي أي يتطوع فأدغم التاء في الطاء {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ} مجاز على القليل كثيراً {عَلِيمٌ} بالأشياء صغيراً أو كبيراً. {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ} من أحبار اليهود {مَا أَنَزَلْنَا} في التوراة {مِنَ البينات} من الآيات الشاهدة على أمر محمد عليه السلام {والهدى} الهداية إلى الإسلام بوصفه عليه السلام {مِن بَعْدِ مَا بيناه} أوضحناه {لِلنَّاسِ فِي الكتاب} في التوراة لم ندع فيه موضع إشكال فعمدوا إلى ذلك المبين فكتموه {أولئك يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} الذين يتأتى منهم اللعن وهم الملائكة والمؤمنون من الثقلين {إِلاَّ الذين تَابُواْ} عن الكتمان وترك الإيمان {وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوا من أحوالهم وتداركوا ما فرط منهم {وَبَيَّنُواْ} وأظهروا ما كتموا {فأولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ} أقبل توبتهم {وَأَنَا التواب الرحيم إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} يعني الذين ماتوا من هؤلاء الكاتمين ولم يتوبوا {أولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ} ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً. والمراد بالناس المؤمنون أو المؤمنون والكافرون إذ بعضهم يلعن بعضاً يوم القيامة قال الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38]. {خالدين} حال من هم في {عليهم} {فِيهَا} في اللعنة أو في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} من الإنظار أي لا يمهلون أو لا ينتظرون ليعتذروا أو لا ينظر إليهم نظر رحمة {وإلهكم إله واحد} فرد في ألوهيته لا شريك له فيها ولا يصح أن يسمى غير إلها {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} تقرير للوحدانية ينفي غيره وإثباته.
وموضع {هو} رفع لأنه بدل من موضع {لا إله} ولا يجوز النصب هنا لأن البدل يدل على أن الاعتماد على الثاني، والمعنى في الآية على ذلك والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول. ورفع {الرحمن الرّحيم} أي المولى لجميع النعم أصولها وفروعها ولا شيء سواه بهذه الصفة فما سواه إما نعمة وإما منعم عليه على أنه خبر مبتدأ، أو على البدل من {هو} لا على الوصف لأن المضمر لا يوصف. ولما عجب المشركون من إله واحد وطلبوا آية على ذلك نزل {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار} في اللون والطول والقصر وتعاقبهما في الذهاب والمجيء {والفلك التي تَجْرِى في البحر بِمَا يَنفَعُ الناس} بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو بنفع الناس و{من} في {وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء} لابتداء الغاية وفي {مِن مَّاءٍ} مطر لبيان الجنس لأن ما ينزل من السماء مطر وغيره. ثم عطف على {أنزل} {فَأَحْيَا بِهِ} بالماء {الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} يبسها ثم عطف على {فأحيا} {وَبَثَّ} وفرق {فِيهَا} في الأرض {مِن كُلِّ دَابَّةٍ} هي كل ما يدب {وَتَصْرِيفِ الرياح} {الريح}: حمزة وعلي. أي وتقليبها في مهابها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً، وفي أحوالها حارة وباردة وعاصفة ولينة وعقماً ولواقح. وقيل: تارة بالرحمة وطوراً بالعذاب. {والسحاب المسخر} المذلل المنقاد لمشيئة الله تعالى فيمطر حيث شاء {بَيْنَ السماء والأرض} في الهواء {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون فيستدلون بهذه الأشياء على قدرة موجدها وحكمة مبدعها ووحدانية منشئها. وفي الحديث: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها.

.تفسير الآيات (165- 176):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
ومن النّاس أي ومع هذا البرهان النير من الناس {من يتّخذ من دون اللّه أنداداً} أمثالاً من الأصنام {يُحِبُّونَهُمْ} يعظمونهم ويخضعون لهم تعظيم المحبوب {كَحُبّ الله} كتعظيم الله والخضوع له أي يحبون الأصنام كما يحبون الله يعني يسوون بينهم وبينه في محبتهم لأنهم كانوا يقرون بالله ويتقربون إليه. وقيل: يحبونهم كحب المؤمنين الله {والذين ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} من المشركين لآلهتهم لأنهم لا يعدلون عنه إلى غيره بحال، والمشركون يعدلون عن أندادهم إلى الله عند الشدائد فيفزعون إليه ويخضعون {وَلَوْ يَرَى} {ترى}: نافع وشامي على خطاب الرسول أو كل مخاطب، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً {الذين ظَلَمُواْ} إشارة إلى متخذي الأنداد {إِذْ يَرَوْنَ} {يرون}: شامي {العذاب أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا} حال {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} شديد عذابه أي ولو يعلم هؤلاء الذين ارتكبوا الظلم العظيم بشركهم أن القدرة كلها لله تعالى على كل شيء من الثواب والعقاب دون أندادهم، ويعلمون شدة عقابه للظالمين إذا عاينوا العذاب يوم القيامة لكان منهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم والحسرة، فحذف الجواب لأن (لو) إذا جاء فيما يشوق إليه أو يخوف منه قلما يوصل بجواب ليذهب القلب فيه كل مذهب. و(لو) يليها الماضي. وكذا (إذا) وضعها لتدل على الماضي، وإنما دخلتا على المستقبل هنا لأن إخبار الله تعالى عن المستقبل باعتبار صدقه كالماضي {إِذْ تَبَرَّأَ} مدغمة الذال في التاء حيث وقعت: عراقي غير عاصم. وهو بدل من {إذ يرون العذاب}. {الذين اتبعوا} أي المتبعون وهم الرؤساء {مِنَ الذين اتبعوا} من الأتباع {وَرَأَوُاْ العذاب} الواو فيه للحال أي تبرأوا في حال رؤيتهم العذاب {وَتَقَطَّعَتْ} عطف على {تبرأ} {بِهِمُ الأسباب} الوصل التي كانت بينهم من الاتفاق على دين واحد ومن الأنساب والمحاب.
{وَقَالَ الذين اتبعوا} أي الاتباع {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} رجعة إلى الدنيا {فَنَتَبَرَّأَ} نصب على جواب التمني لأن لو في معنى التمني والمعنى ليت لنا كرة فنتبرأ {مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا} الآن {كذلك} مثل ذلك الإراء الفظيع {يُرِيهِمُ الله أعمالهم} أي عبادتهم الأوثان {حسرات عَلَيْهِمْ} ندامات. وهي مفعول ثالث ل {يريهم} ومعناه أن أعمالهم تنقلب عليهم حسرات فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم. {وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار} بل هم فيها دائمون. ونزل فيمن حرموا على أنفسهم البحائر ونحوها. {يأَيُّهَا الناس كُلُواْ} أمر إباحة {مِمَّا في الأرض} (من) للتبعيض لأن كل ما في الأرض ليس بمأكول {حلالا} مفعول {كلوا} أو حال مما في الأرض {طَيِّباً} طاهراً من كل شبهة {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} طرقه التي يدعوكم إليها بسكون الطاء: أبو عمر غير عباس ونافع وحمزة وأبو بكر.
والخطوة في الأصل ما بين قدمي الخاطي. يقال اتبع خطواته إذا اقتدى به واستن بسنته. {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} ظاهر العداوة لاخفاءه به. وأبان متعدٍ ولازم. ولا يناقض هذه الآية قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] أي الشيطان لأنه عدو للناس حقيقة ووليهم ظاهراً فإنه يريهم في الظاهر الموالاة ويزين لهم أعمالهم ويريد بذلك هلاكهم في الباطن. {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم} بيان لوجوب الانتهاء عن اتباعه وظهور عداوته أي لا يأمركم بخير قط إنما يأمركم {بالسوء} بالقبيح {والفحشاء} وما يتجاوز الحد في القبح من العظائم. وقيل: السوء ما لاحد فيه والفحشاء ما فيه حد {وَأَن تَقُولُواْ} في موضع الجر بالعطف على {بالسوء} أي وبأن تقولوا {عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} هو قولكم هذا حلال وهذا حرام بغير علم، ويدخل فيه كل ما يضاف إلى الله تعالى مما لا يجوز عليه.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله} الضمير للناس. وعدل بالخطاب عنهم على طريق الالتفاف. قيل: هم المشركون. وقيل: طائفة من اليهود لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان واتباع القرآن، {قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} وجدنا {عَلَيْهِ ءابَاءَنَا} فإنهم كانوا خيراً منا وأعلم فرد الله عليهم بقوله {أَوَلَوْ كَانَ آباؤُهُمْ} الواو للحال والهمزة بمعنى الرد والتعجب معناه أيتبعونهم ولو كان آباؤهم {لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا} من الذين {وَلاَ يَهْتَدُونَ} للصواب. ثم ضرب لهم مثلاً فقال: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ} المضاف محذوف أي ومثل داعي الذين كفروا {كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} يصيح والمراد {بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً} البهائم. والمعنى مثل داعيهم إلى الإيمان في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار كمثل الناعق بالبهائم التي لا تسمع إلا دعاء الناعق ونداءه الذي هو تصويت بها وزجر لها ولا تفقه شيئاً آخر كما يفهم العقلاء. والنعقيق: التصويت، يقال نعق المؤذن ونعق الراعي بالضأن والنداء ما يسمع والدعاء قد يسمع وقد لا يسمع. {صُمٌّ} خبر مبتدأ مضمر أي هم صم {بِكُمٌ} خبر ثانٍ {عُمْىٌ} عن الحق خبر ثالث {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} الموعظة، ثم بين أن ما حرمه المشركون حلال فقال:
{يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} من مستلذاته أو من حلالاته {واشكروا لِلَّهِ} الذي رزقكموها {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إن صح أنكم تختصونه بالعبادة وتقرون أنه معطي النعم. ثم بين المحرم فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} وهي كل ما فارقه الروح من غير ذكاة مما يذبح وإنما لإثبات المذكور ونفي ما عداه، أي ما حرم عليكم إلا الميتة {والدم} يعني السائل لقوله في موضع آخر:
{أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام: 145]. قد حلت الميتتان والدمان بالحديث: «أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال» {وَلَحْمَ الخنزير} يعني الخنزير بجميع أجزائه، وخص اللحم لأنه المقصود بالأكل. {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} أي ذبح للأصنام فذكر عليه غير اسم الله، وأصل الإهلال رفع الصوت أي رفع به الصوت للصنم، وذلك قول أهل الجاهلية باسم اللات والعزى. {فَمَنِ اضطر} أي ألجئ بكسر النون: بصري وحمزة وعاصم لالتقاء الساكنين أعني النون والضاد وبضمها غيرهم لضمة الطاء. {غَيْرَ} حال أي أكل غير {بَاغٍ} للذة وشهوة {وَلاَ عَادٍ} متعد مقدار الحاجة. وقول من قال غير باغ على الإمام ولا عادٍ في سفر حرام ضعيف لأن سفر الطاعة لا يبيح بلا ضرورة، والحبس بالحضر يبيح بلا سفر، ولأن بغيه لا يخرج عن الإيمان فلا يستحق الحرمان. والمضطر يباح له قدر ما يقع به القوام وتبقى معه الحياة دون ما فيه حصول الشبع، لأن الإباحة للاضطرار فتقدر بقدر ما تندفع الضرورة {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في الأكل {أَنَّ الله غَفُورٌ} للذنوب الكبائر فأنى يؤاخذ بتناول الميتة عند الاضطرار {رَّحِيمٌ} حيث رخص.
ونزل في رؤساء اليهود وتغييرهم نعت النبي عليه السلام وأخذهم على ذلك الرشا {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب} في صفة محمد عليه السلام {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا} أي عوضاً أو ذا ثمن {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} ملء بطونهم تقول: أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه {إِلاَّ النار} لأنه إذا أكل ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار. ومنه قولهم (أكل فلان الدم) إذا أكل الدية التي هي بدل منه قال:
يأكلن كل ليلة إكافاً

أي ثمن إكاف فسماه إكافاً لتلبسه به بكونه ثمناً له. {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} كلاماً يسرهم ولكن بنحو قوله: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون: 108]. {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} ولا يطهرهم من دنس ذنوبهم أو لا يثني عليهم {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم فحرف النفي مع الفعل خبر {أولئك} و{أولئك} مع خبره خبر {إن} والجمل الثلاث معطوفة على خبر (إن) فقد صار ل (إن) أربعة أخبار من الجمل. {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة} بكتمان نعت محمد عليه السلام {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} فأي شيء أصبرهم على عمل يؤدي إلى النار؟ وهذا استفهام معناه التوبيخ. {ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق} أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل ما نزل من الكتب بالحق. {وَإِنَّ الذين اختلفوا} أي أهل الكتاب {فِى الكتاب} هو للجنس أي في كتب الله فقالوا في بعضها حق وفي بعضها باطل {لَفِى شِقَاقٍ} خلاف {بَعِيدٍ} عن الحق أو كفرهم ذلك بسبب أن الله نزل القرآن بالحق كما يعلمون، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شقاق بعيد عن الهدى.